شبهات و بينات - عبدالباسط يحياوي

الثلاثاء، 4 يونيو 2019

thumbnail

بقرة بني إسرائيل العجيبة





قصة بقرة بني إسرائيل ، هذه القصة العجيبة و الغريبة سميت بها  أطول سورة في المصحف ، (سورة البقرة) هكذا قال أو فهم الشرّاح وملخص هذه الحكاية أن هناك جريمة قتل حدثت وهذا ما تمّ ذكره في الآية و لكنهم يظنون بأن معجزة سماوية حصلت بعد الانتهاء من عملية الوصول إلى البقرة المطلوبة. وعلى القارئ الكريم أن يتذكر كل الغرائب التي نقلتها لنا كتب التفسير ومنها ما يلي:
-           وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71) قالوا أنها تدل على أنهم  لم يذبحوها ولكن حسب الأحداث الواردة في الآية أصروا على عملية الذبح لهذه البقرة ، وذلك باعتمادهم على هذه الجملة حيث أن بنو إسرائيل تباطئوا في ذبحها حين انحصرت الأوصاف في بقرة معيّنة .
-          قالوا إن معنى اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا هو اضربوا بعض أعضاء البقرة التي ظنوا بأنها مذبوحة بأعضاء المقتول فلما فعلوا قام الميت وأخبر عن قصة قتله وبيّن اسم القاتل ثم مات مجددا...!!!   تصوروا حيوانا ميتا مذبوحا يحيي إنسانا مذبوحا؟!.
-          لو كان بنو إسرائيل ينوون عدم ذبح البقرة فكيف رضوا بالنتيجة بأن يذبحوا بقرة فريدة يقولون بأنهم دفعوا مبلغا كبيرا لصاحبها؟.
-          لقد توصلوا بأن هذه الآيات نسخت بعضها بعضا حيث نسخ حكمه ببيان صفاتها ثم نسخ حكمه ثانية ببيان لونها ثم ثالثا بتحديدها في بقرة خاصة.
-          لماذا ينسخ الله تعالى حكمه واحدا تلو الآخر؟ أليس ذلك دليلا على عدم كفاءة الحكم المنسوخ؟ وهذا فيه تعد صارخ على الذات الإلهية  فكيف يصدر حكما غير قابل للتنفيذ فيضطر لتبديله؟ أيعقل ذلك . و الواقع أنه لا يوجد أي نسخ في القرآن بل النسخ لبعض أحكام التوراة بآيات جديدة من القرآن.
-          يقولون أن الميت تمّ إحياءه عن طريق هذه البقرة ويصرّون على ذلك ، باعتمادهم على  فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى. هكذا فهموها بكل بساطة . والسؤال الذي يطرح نفسه هل يحتاج كل ميت إلى بقرة مذبوحة ليتم إحياؤه؟ المسألة لها غاية أخرى .
-          ” وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ”  قالوا بأنهم ذبحوا البقرة لكنهم ترددوا في فعل ذلك كثيرا، لكان من الأولى أن يقول سبحانه: وكادوا أن لا يفعلون ذلك . لأن “ما كادوا” تعني بأنهم لم يقربوا من الذبح. قال الراغب في المفردات في معنى كاد: “ووضع (كاد) لمقاربة الفعل، يقالكاد يفعل: إذا لم يكن قد فعل، وإذا كان معه حرف نفي يكون لما قد وقع، ويكون قريبا من أن لا يكون”. فما كاد أبعد من الفعل من كاد بدون حرف نفي. وهو صحيح لأن كاد من أفعال المقاربة.
-          المقصود من كل القصة أن يتعرف موسى ومن معه على القاتل. فما الحاجة لهذه العملية المعقدة؟ كان يمكن أن يحيي الله تعالى ذلك الميت بقدرته فيشهد أمامهم بالقاتل ثم يموت مرة أخرى كما ظنوا ، دون أن يُتعب الناس في البحث عن بقرة. والسؤال الذي يطرح نفسه ما علاقة البقرة بالكشف عن مجرم؟. وما هي العبرة المطلوب الوصول إليها منها؟
القصة كلها عبارة عن قضية افتراضية يفترض فيها أنَّ هناك ما يفرض عليكم ذبح بقرة و (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ) لا تُشير إلى أنَّ موسى يقول لقومه أن وحياً إلهياً قد نزل عليه وإنَّما يريد الإشارة إلى أنَّ القضية افتراضية،  كأن تقول لشخصٍ تحاوره: جاء أبوك وطلب منك أن تأخذ السيارة، فما أنت فاعل؟  فالقول هنا ليس خبراً تنقله وإنّما هي فرضية تريدُ من السامع أن يفترضها ويجيب عليها لأنّك تريد البناء على جوابه.
وأوضح من هذا المثال قول الطبيب لشخص يريد أن ينصحه: إنَّ الله يأمركَ بتدفئة البيت وجعله محيطاً مناسباً للتحرك دون خوف من الإصابة بالزكام فهو هنا لا يدَّعي بأنَّ الله تعالى أوحى له! وإنَّما هو يريد القول لذلك الشخص بأنَّ القوانين الإلهية الطبيعية تدفع باتجاه هذا الاعتقاد وهذا السلوك
وللتأكيد على أن المسألة هي افتراضية هو مراجعتنا إلى  التركيب (يأمرُ) المنسوب إلى الله لوجدنا المعنى المقصود به مختلفاً عما في أذهاننا حول هذه الآية في قوله مثلا :
 
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (*) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا( 58- 59النساء)
الواضح أنَّ الآية تريد أن تؤكد لنا أن هناك  قانون إلهي بقضي برد الأمانات إلى أهلها، فهي قاعدة عامة ، وهي ليست أمراً تشريعيا مباشراً وخاصاً، وإنَّما هي قاعدة عامة  تطبق على حياة الإنسان اليومية أينما كان ووقتما كان، والإنسان هو الذي يقرِّر متى يقتضي الأمر منه أن يؤدي الأمانة إلى أهلها
و للتأكد أكثر علينا أن ننظر للتوظيف القرآني لهذا المصطلح عند الحديث عن الشيطان، إذ تقول الآية مثلاً:
 
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268البقرة)
 من المعلوم أن الشيطان ليس له سلطة على الإنسان فالشيطان وهو كما تقول الآيات  يدعو الإنسان فقط (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22إبراهيم)) فكيف تقول الآية هنا أنَّه (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)؟ من المؤكد أنَّ عمل الشيطان يقع بطريقة لها قانون معين هو الذي يبدو في ذهن الإنسان كأنَّه أمر ودفع ومصادرة الإرادة . حالة نفسية تصيب الشخص .
-            فلو كان الأمر هو تشريعي عام لبني إسرائيل فمنذ تلك اللحظة ( ذبح بقرة) وما يليها ، أن يواصلوا عملية ذبح أبقار متعددة وكأن الأمر سيكون أنهم كلما عثروا على بقرة تنطبق عليها هذه المواصفات ينبغي أن يذبحوها! وهو أمرٌ لا يمكن قبوله منطقياً.
-           جوابهم على الطلب حينما (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) فهذا يعني أنهم استغربوا الأمر من موسى فخطر ببالهم أنَّه إنَّما يريد أن يمازحهم، لذا فقد تساءلوا وحاولوا التأكد، وإلا فما أسهل أن يذبحوا بقرة في مناسبة معينة، ولو أنّهم فهموا من ذلك تشريعا وأمرا إلهياً لكان المفترض أن يكون سؤالهم (ما هي المناسبة؟) فمن غير المعقول أن تطرح الأسئلة لمعرفة نوع ولون وسن البقرة المطلوب ذبحها من دون سبب.
-          بنو إسرائيل  سألوا بهذه الطريقة لأنَّ موسى أخبرهم بأنَّ الأمر فُرِضَ عليهم بشكل طبيعي، وأنَّ الموضوع مرتبط بالبقرة ذاتها وليس بعملية الذبح، لذلك بدؤوا بالتفاعل مع فرضيته والتحاور معه حول البقرة في محاولةٍ منهم لتضييق نطاق البحث وفهم العلَّة الدافعة إلى العثور على مثل تلك البقرة. .
-          جواب موسى يؤكد أنَّ الأمر افتراضي وليس أمراً تشريعيا، إذ قال (قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) محاولاً دعوتهم للصبر و التفاعل مع الفرضية ليعرفوا النتيجة التي يريد الوصول إليها تماما مثل شخصان يتحاوران في قضية ما حيث يطلب الآخر من مستمعه الهدوء و الصبر وتحمل الفرضيات التي يطرحها لحين إكمال فكرته.
-           فالقوم تفاعلوا معه وثار فضولهم وصاروا يريدون حثَّهُ على الوصول إلى النتيجة المطلوب الوصول إليها فــ (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ). بمعنى أنَّهم قالوا حينها: سنحاول معرفة طبيعة البقرة المطلوب ذبحها، وسوف نبحث الأمر معكَ بطريقة علميَّة، باعتبار أنَّك أنتَ الذي جئتنا بهذا الأمر، لذلك ردوّا عليه بنفس طريقته وتفاعلوا مع قضية الفرضية بأسلوب مشابه)
المتأمل لهذه الآيات و أحداثها سيطرح العديد من الأسئلة ، من بينها هل النبي موسى وبعد استنجاد القوم به ليكشف لهم القاتل (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) تعني بأن موسى قام من نومه فقال يا أيها الناس: اذبحوا بقرة. بل المسألة فيها تبصّر وهداية إلى الطريقة المثلى للوصول إلى الحلّ وليست أية بقرة ، بل بقرة معيّنة ذات أوصاف ، فالبحث هو العمود الفقري  لهذه القصة، لقد كانوا متعاونين مع نبيهم والمشار إليهم في السياق القرآني ليسوا كل أمة بني إسرائيل بل نخبة من المسئولين. فطرح الأسئلة عليه والاستفسار هي مسألة تعلّمية وكان  النبي موسى يذكر الأوصاف معهم تدريجيا ( حسب المرحلة) ليحدد مجموعة الأبقار التي ينبغي الاختيار منها فيصلوا بسرعة إلى البقرة المطلوبة. ولذلك لم يماطل ولم يطلب زمانا للاستفهام من ربه بل كان يرد عليهم فورا.
تعدد أوصاف البقرة بدأت بالعمر وكان جواب النبي موسى دقيق حيث قال  أنها متوسطة العمر  ( لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ) لقد فسّر المفسرون أن لا فارض تعني بالمسنة بل بالعكس فإنها تشير إلى البقرة التي لا زالت تعمل وليست البقرة المسنة والتي عادة لا تقوم بالأعمال الزراعية  كما ظنّوا. وواقع الأمر أن الله تعالى بصدد تحديد مساحة البحث ليقتربوا إلى البقرة المطلوب ذبحها بتعب أقل ، وبالتالي تخرج منه الأبقار من سن المتوسط. عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ. ليقول بأنها أقرب إلى سن البكر من سن منتصف العمل. فكلمة ” ذَلِكَ ” يعود إلى ذلك السن المنتصف (سن المتوسط) فيصير في ربع السن.
 أخرج الله تعالى سن العجولة وسن الكهولة ووصل إلى منتصف باكورة النشاط العملي( ربع السن) وقبل السقوط( قبل أن تصبح مسنة) وهو معنى لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ. قال ابن فارسالعَوانُ: النَصَفُ في سنِّها من كلِّ شيء.
توصل بنو إسرائيل إلى البقرة  بعد جهد وتعب ولكن المشكلة في لونها فأكثر الأبقار صفراوات ( ملاحظاتهم أثناء البحث ) وقد حددها سبحانه بالفاقع وهي من الفقاع وهو لون ماء الشعير ( البيرة بالتعبير المعاصر). والواقع أن الله تعالى يصف البقرة بالصفراء ويصف لون البقرة بالناصع ثم يصف آثار اللون بأن البقرة تسر الناظرين بمعنى جذابة وتمتاز بالجمال . لكن البقر تشابه عليهم حيث هناك الكثير من البقر( مئات الأبقار) يحمل نفس اللّون ( قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ. ) غير أن الله ذكر أربعة أوصاف أخرى توصلهم إلى البقرة فعلا. ( قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا.)
البقرة الذلول: تعني البقرة التي تخدم صاحبها بكل قوة ومطيعة وغير كسولة في ما يوجهها نحوه من عمل.
 تثير الأرض: يعني بأن تجر عليها محراث مثلا.( تستعمل للحراثة)
تُستعمل في سقي الحرث بالأساليب البدائية القديمة.
المهم أن البقرة كانت الحيوان الذي يُستفاد منه للغرضين المذكورين( الحرث و السقاية) والبقرة المقصودة لم تكن تُستعمل لذلك الهدف العام. والوصف الوارد يخرج ثلاثة أنواع من الأبقار في واقع الأمر. فهناك أبقار تثير الأرض وأخرى تسقي الحرث وأخرى تعمل العملين معا. وكل هذه الأعمال تترك آثارا على ظهر الدابة أو قوائمها أو عليهما معا.
إذا نستنتج أن البقرة المعنية خرجت من أكبر نسبة من الأبقار المتبقية ولم يتبق إلا عدد ضئيل. والبقرة حينما تُعفى من العمل فهذا يعني بأنها بقرة مدللة يحتفظ بها صاحبها لنفسه إما للزينة أو لنذر أو لهدف مستقبلي آخر. ذهب القوم بعد ذلك وراء الوصفين الأخيرين وهما السلامة من الأمراض ومن علامات العمل أو الألوان المتداخلة. هنالك انحصر الانطباق على بقرة واحدة فقط.
انتهى الاختبار الأول ، وتم استيفاء المطلوب وهو البحث عن فردٍ واحد من بين أفراد متشابهين عن طريق اختلاف الأوصاف فقد حددوا البقرة وحددوا صاحبها بعد عمل و بحث مضني و شاق للغاية ، وتمكنوا من إحضار البقرة المطلوبة تمهيدا للذبح و لا زالوا يجهلون السر وراء كل هذه العملية الطويلة الشاقة.
هل صارت عملية الذبح وذلك لمعرفة القاتل الفعلي الذي تسترت عليه مجموعة والذين يعتبرون شركاء في هذه العملية.؟ بالطبع لا ، فقوله تعالى فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ لا تدل على أن عملية الذبح صارت بالفعل .
أقرَّ ذلك الجرجاني، سيَّما وأنَّ التركيب (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) جاء فيه الفعل (يَفْعَلُونَ) لينفي وقوع الفعل الفيزيائي المادي الذي هو جزء ظاهر من (العمل) الذي يشمل حتى النوايا والتفكير أو النظر في الأمور، فكلها أعمال بطريقة أو بأخرى ولكنَّها لا تكتسب صفة الفعلية إلا إذا تحققت فعلاً في المحيط الفيزيائي وغيرت منه. / يقول الجرجاني النحوي أن «كاد» معناها المقاربة فقولنا كاد يفعل معناه قرب من الفعل وقولنا ما كاد يفعل معناه ما قرُبَ منه. مثال : كاد الطفل أن يسقط من فوق السطح. بمعنى قرب أن يسقط ( لم تحصل عملية السقوط)  / ما كاد الطفل أن يسقط من فوق السطح. بمعنى ما قرب أصلا لهذا الفعل ( السقوط).
بمعنى أنَّ الآية تنفي وقوع الجزء المادي مع الإبقاء على الجزء الآخر من العمل المقصود وهي الصورة الذهنيَّة للفعل. وبالإدراك تم ذبح البقرة في خيال كل واحد منهم إذ لا أحد منهم يعرف من الذي سيكلف بذبحها فعلا. ولذلك وصف الله تعالى حالتهم الذهنية ومدى شعورهم بالفرح بقوله : فذبحوها. يعني بأن كل واحد منهم بدأ يحلم بأنه هو الذي سيكون له الشرف بذبح البقرة بحكم أنه أمر إلهي والمحبب لديهم. فالذبح ليس عملا جماعيا يقوم به بنو إسرائيل سويّة كما عملوا معا حين التحريات والبحث عن البقرة. إنه عمل فردي وبعد هذا الجهد المضني سيكون الشرف من نصيب واحدا منهم.
خرجت البقرة وخرج الذبح من أذهان المؤمنين و بدأت مرحلة صعبة جدا للكشف عن قاتل لم يروه ولم يعرفوا لونه ولا يدرون عنه أي شيء. فقط الذين يعرفونه هم المخاطبون في الآية :وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ. ولكن هناك فئة تريد أن تعرفه. فعملية البحث عن البقرة في المرحلة الأولى و ما نتج عنه من خبرة في التقصي ( المكان والدقة في الوصف و حصر الأبقار للوصول إلى بقرة معينة والذهاب و الإياب وطرح الأسئلة..) كل هذا أعطاهم خبرة وعلم جديد وهو البحث و التقصي بالاعتماد على أدلة لذا قال تعالى * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (72- 73). فإحياء الموتى بهذه الطريقة المعقدة لإعادة الحياة إلى المقتول ليقول من قتله ، وما قاله المفسرون حول المبالغة في إقامة الحجة لا يبدو مقنعاً بتاتاً. فما قيمة هذه المعجزة لمن لم يشهدها ولم يحضرها ويرى بعينه أن الميت قد أفاق واخبر بقاتله وعاد إلى الموت؟*  وما هي العبرة أو الدرس بالنسبة لنا نحن في هذا العصر ؟
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ليس المقصود به ضرب أعضاء البقرة المذبوحة بالميت بل طبقوا المثل ( البحث عن البقرة ) لتتوصلوا إلى  مرتكب الجريمة  أي ابحثوا عنه وتقصوا واسألوا وعاينوا مكان الجريمة و طبقوا هذه التحريات على ما ترونه من آثار الجريمة حتى تتمكنوا من العثور  على المجرم. يستعمل العربي وكذلك القرآن كلمة الضرب لضرب المثل. فيعني بأنهم يستفيدوا من البحث كمثال للبحث عن الجاني؛ عليه يكون معنى اضربوه يبعضها هو ضربا لما تعلمتموه من جوانب القصة في البحث عن البقرة المعينة على جوانب قضية البحث عن الجاني في جريمة القتل.
نحن لا نعرف كم من الوقت قضوه حتى تعلموا كيف يتوصلون إلى الجاني وهل توصلوا أم لا؟ لكننا نعرف بأن هذا العلم الجديد أخذ مسيره في الأرض أهتم به العديد من الأشخاص. وليس هدف القرآن الكريم أن يكمل القصة كما أنه ليس بمقدور البشر بعد آلاف السنين أن يعرفوا حقيقة ما حدث.
الموضوع كله تعليمي ودرس في مسألة البحث الجنائي، فنحن نشهد ما توصل إليه لتحقيق الجنائي الذي أصبح علما مستقلاً له نوابغه ومميَزيه في كشف ملابسات الجرائم في مختلف أنحاء العالم.

Subscribe by Email

Follow Updates Articles from This Blog via Email

2 Comments

About