علينا التعامل مع المصحف على أساس كتاب سماوي ثابت ندرسه ونحاول
أن نفهمه وليس كتاب أرضي فإذا لم نتمكن من ذلك فلا يجب أن نفترض بوجود خلل في هذا
الكتاب بل الخلل هو في قدرتنا على عدم فهمه ، والدّارس لتفاسير المصحف يلاحظ
الكثير من المشاكل والإخلال.
ورد في المصحف القبر والأجداث في العديد من المواضع ، فقد ورد
مشتقات الجذر ( قَبَرَ ) في 8 مواضع من المصحف : عبس الآية 21 / التوبة الآية 84 /
الانفطار الآية 4 / الحج الآية 7 / فاطر الآية 22 / الممتحنة الآية 13 / العاديات
الآية 9 / التكاثر الآية 2 .
انفرد الراغب الأصفهاني عن بقية أصحاب المعاجم والتي فسرت القبر
تفسيرا سطحيا وهو القبر المادي ، انفرد في تعريفه للقبر يقول الراغب : القبر مقر
الميت ، ومصدر قبرته: جعلته في القبر، و أقبرته: جعلت له مكان يقبر فيه.نحو
أسقيته: جعلت له ما يسقى منه. قال تعالى: ثم أماته فأقبره / عبس
. قيل معناه ألهم كيف يدفن ، والمقبرة موضع القبور وجمعها المقابر قال تعالى (حتى
زرتم المقابر ) التكاثر / 2 كناية عن الموت وقال تعالى ( إذا بعثر ما في القبور)
العاديات / 9 إشارة إلى حالة البعث وقيل إشارة إلى حين كشف السرائر، فإن أحوال
الإنسان مادام في الدنيا مستورة كأنها مقبورة فتكون القبور على طريق الاستعارة ،
وقيل معناه إذا زالت الجهالة بالموت فكأن الكافر والجاهل مادام في الدنيا فهو
مقبور، فإذا مات فقد أنشر واخرج من قبره أي من جهالته قال تعالى ( وما أنت بمسمع
من في القبور) فاطر 22 أي الذين هم في حكم الأموات .
وهناك فرق بين القبور و المقابر، فالقبور جمع قبر وهذا يدل من
خلال هذا الجمع ،على عملية الإقبار فقط( دفن )، فكل شخص يتم قبره ( دفنه ).
بينما المقابر جمع مقبرة وهنا نجد مفهوم آخر لعملية الإقبار،
وهو وجود معايير أو مقاييس يجمع المقبورين كأن يكونون من فئة واحدة، أو ربما
يكونون من مستوى واحد في النفوس فيتم جمعهم في مقبرة أخروية واحدة.(مقبرة للصالحون
و أخرى للطالحون ) . وقد أورد القرآن مصطلح القبور و المقابر للتعبير عن وجود
الأنفس في مكان آخر وليس القبور الدنيوية التي نعرفها.
يقول تعالى ﴿ قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ
أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ
السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ
أَنشَرَهُ (22) ﴾ عبس. المتأمل لهذه الآية يستنتج أن جميع البشر يموتون ويدفنون
(يقبرون ) بينما هذا غير صحيح فالملايين لم يقبروا في الأرض بالمعنى المتعارف عليه
( الإقبار = الدفن). فالإقبار هنا متعلق بالنفوس بعد أخذها و انتزاعها من الأجساد
ووضع النفس بأماكن معينة. كذلك يقول تعالى ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ
(6) وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ
لَشَدِيدٌ (8) ۞ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ
(11) ﴾ العاديات . فإذا كان المقصود ببعثرة ما في القبور ، بالقبور الترابية
وإخراج الجثث بعد بعث الحياة فيها ، فهذا سيشمل الفئة الأخيرة من البشر التي ماتت
أما السابقون فقد تحولوا إلى طعام أو معادن أو تراب ، فالبعثرة هنا هي بعثرة
النفوس الموجودة بهذه الأماكن المعيّنة وتوزيعها على زمر خاصة تشمل كل واحدة منها
على مواصفات متشابهة بناءا على معايير ومقاييس معينة. قال تعالى ﴿وَإِذَا
النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) ﴾ التكوير . والمقصود هنا الأنفس ذات الأعمال المتشابهة .
﴿وَلَا تُصَلِّ
عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ إِنَّهُمْ
كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) ﴾ التوبة.
الحديث هنا ليس على القبر الذي نعرفه وإنما الحديث عن مسألة أخرى ولفهم ذلك، لابد
من وضع الآية في سياقها، فالآيات التي سبقت هذه الآية ابتداء من الآية 75 ولغاية
الآية 93 حيث الحديث عن فئة المنافقين الذين تخلفوا أو لم يخرجوا مع الرسول في
معاركه الدفاعية بالرغم ليس لديهم أعذار ( المرض أو العجز أو الإعالة ...) فقد
كشفهم النص القرآني وفضح هذه الفئة ، حيث يقول للنبي لا تتعب نفسك فهؤلاء لا أمل
منهم فقد ماتت أنفسهم بحيث أصبحت أجسادهم عبارة عن قبور متحركة ، فلا تنشغل بهم و
لا تحاول إصلاحهم عبر إجراءات ونصائح وتقويمهم ( الصلاة) بطرق مختلفة ، وليس كما
ذهب المفسرون أن المنافق بعد موته ودفنه لا يجب على الرسول أن يدعوا له وأن صلاة
الرسول ووقوفه علي قبره يعتبر شفاعة منه له حيث لا تنفع فيه الشفاعة.
فلقد رفضوا أول مرة الخروج مع النبي لنصرته ، لذا من المطلوب أن
لا يقبل خروجهم مرة ثانية ، كذلك المطلوب من النبي ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ
مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا ﴾ حيث اتضح وبشكل جلي لا أمل منهم فكل مرّة يتذرعون
بأسباب واهية وبالتالي طالبت الآية بأن يتركهم ويعرض عنهم ، والنهي على الصلاة هنا
لذلك الإنسان الذي لا يرجى منه خيرا ولا أمل في إصلاحه أو هدايته. أما مسألة
القيام على قبره هو عدم تضييع الوقت مع هذا الإنسان فهو عبارة عن نفس ميتة مقبورة
في جسم متحرك.
﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ
عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ
أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) ۞
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ۘ وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ
ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن
رَّبِّهِ ۚ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( (37﴾الأنعام. من الواضح الفئة التي تستجيب للرسول
هي تلك الفئة التي عرفت أن ما جاءت به الرسالة هو الحق والسمع هنا هو قمة الإدراك
والمعرفة . وقد تعامل الله سبحانه و تعالى مع الفئة الأخرى ووصفهم بالموتى بالرغم
أنهم أحياء بدليل قولهم وجدالهم فقد تعامل معهم على أنهم أحياء وَقَالُوا لَوْلَا
نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ وذلك للدلالة على أن إرادتهم ميتة .
بعد معرفتنا لمعنى المقابر في المصحف ، يتضح لنا بأنها ليست تلك
القبور المادية لأنها تتغير مع مرور الزمن وتتحلل وتنتهي .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ
(1) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ
لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8). التكاثر
هذه السورة تختلف عن بقية الآيات فحين تدبّرنا لها نصل إلى
نتيجة مفادها أنها تتحدث عن التكبّر والتعالي والتفاخر بالنسب والعرق....ونبذ
الفئة التي تمارس مثل هكذا تصرف، وهذا نوع من الانتحار والموت حيث تسلم هذه الفئة
نفسها فتصبح مقبورة في أمثال هذه المقابر المعدة للناس بعد موتهم. فبهذا التصرف و
الممارسات يدخلون المقابر وبالتالي فهم موتى و زوّارا لها ، فهي مقابر جحيمية وما
يقومون به هو بشكل طوعي ، ولقد جاءت اللفظة بعد الجحيم مؤنثة ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا
عَيْنَ الْيَقِينِ (7) علما أن الجحيم مذكر والمقصود هي المقابر.
الأجداث:
وردت لفظة الأجداث في ثلاث مواضع في المصحف :
- سورة يس الآيات 49-54
- سورة القمر الآيات 6-8
- سورة المعارج الآيات 40-44
وهذه الآيات كلها تتحدث عما يسبق الوقوف للحساب يوم القيامة،
وهو يوم تجتمع فيه الناس من كل القرون و الأزمنة المختلفة.
لذا نستنتج أن :
- الأجداث ليست بالقبور كما هو متعارف عليه، فهناك الآلاف
بل الملايين لا قبور لهم إما ماتوا وأحرقت أجسادهم، أو تتقطع إلى أجزاء صغيرة
نتيجة انفجار آو انصهرت و أذيبت بحيث يستحيل وضعهم في قبور أو تحولت أجسادهم إلى
مواد أخرى. وحسب تصوري الأجداث هي أماكن تتجمع فيها الأنفس.
- وصفهم كالجراد في انتشارهم وطرح الأسئلة عن الجهة التي
أيقظتهم من مرقدهم هذا واتجاههم باتجاه نقطة معيّنة ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ
الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7) ﴾ القمر .و قوله ﴿يَوْمَ
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
﴾ المعارج. وقوله ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ
رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا
ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) ﴾.يس
الأجداث أشبهها بمستودعات كبيرة توضع فيها الأنفس ، وهذه
الأنفس مصنّفة ضمن مقابر ( أدراج) داخل هذه المستودعات ولنبسط الأمر قليلا لديك
مستودع تخزن فيه أدوات تستعمل للتجهيز العام ، بحيث تضع في كل درج أداة من نفس
النوع والاستعمال كمفكات البراغي المختلفة الأحجام و النوع ، كل نوع في درج ،
البراغي ، الكلاليب، ...... كذلك الأنفس تصنّف كل حسب عمله والفترة الزمنية التي
عاشها....
المهم في هذه المحاولة ، أن نتصور التنظيم الربوبي لهذه المسألة
وهي أعقد مما نتصور وهو أرقى وأدّق وربما سوف يبقى كذلك إلى يوم القيامة .
Subscribe by Email
Follow Updates Articles from This Blog via Email


No Comments