كل سنة من شهر ذو الحجة في اليوم العاشر تنحر الآلاف من الأضاحي وهي مناسبة
تذكرنا بتلك القصة، قصة سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل عندما أراد ذبحه تصديقا
للرؤيا ففداه الله بذبح عظيم والقصة معروفة بتفاصيلها... ولكن هل هذه القصة وأحداثها،
هل هي صحيحة كما هو مكتوب في كتب التراث؟ وهل الذبيح هو سيدنا إسماعيل؟
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ
(101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ
أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ
ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا
ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ
(106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ
(108) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ
مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) ﴾ الصافات
فقد فسر السلف والمحدثين وجميعهم تقريبا متفقون حول هذه القصة واحدثت العديد
من المشاكل والتناقضات بين التفسير والنص القرآني
تفسير ابن كثير:
وقوله: (فلما بلغ معه السعي) أي: كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه. وقد
كان إبراهيم -عليه السلام -يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد " فاران
" وينظر في أمرهما، وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك، فالله أعلم.
وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني، وزيد بن أسلم،
وغيرهم: (فلما بلغ معه السعي) يعني: شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل
(فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى)
قال عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحي ثم تلا هذه الآية: (قال يا بني إني أرى في المنام
أني أذبحك فانظر ماذا ترى )
قال يا أبت افعل ما تؤمر) أي: امض لما أمرك الله من ذبحي ، ( ستجدني إن شاء
الله من الصابرين ) أي : سأصبر وأحتسب ذلك عند الله - عز وجل - . وصدق
هذا التفسير وغيره فيه الكثير من نقاط الضعف على مستوى الألفاظ والفهم الساذج
والخرافي، فالمسألة هي أن سيدنا إبراهيم عليه السلام معروف عنه كما وصفه القرآن بأنه
ذلك الإنسان المتنقل الغير مستقر على المستوى المعرفي وهذا العمل مرهق ومتعب لهذا الطفل وبالتالي أصبح الجهد
الذي يبذله ابنه متساوي لجهد سيدنا ابراهيم فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ. وبلغ
لا تدل أنه وصل إلى سن معينة مثل قوله﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا
النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا. ﴾النساء 6. وإنما البلوغ هو الوصول
إلى نفس المستوى مع والده في العمل والجهد المبذولين وليس السن والمشي كما فهموها وفسّروها،
فالسعي حركة باتجاه هدف معين، إلى جانب ذلك أن سيدنا إبراهيم كان يناقش ابنه
الحليم فكريا في مسائل أفكار التوحيد وكيفية حث الناس للابتعاد عن الشرك ... وهذه ميزة سيدنا إبراهيم.
مسألة الرؤيا إِنِّي أَرَىٰ فعل مضارع مستمر يعني عملية متكررة فلو كانت وحيا
فالأجدر أن ينفذ الأمر منذ المرة الأولى زد على ذلك أن الوحي لا يأتي للأنبياء على
شكل منام وفسروا أرى بــــ رأيت وهذا فيه خلاف لأن أرى هي عملية متكررة بينما رأيت
هي مرة واحدة. والرؤيا هنا جاءت بعد أن بلغ ابنه السعي، وهي رؤيا ذهنية نابعة عن مظهر
أو فعل خارجي.
يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ كذلك فعل مضارع
مستمر مثل أَرَىٰ وفسروا ذلك بـــ "أني رأيت إِني أذبحك". والمقصود هنا أن
عملية الذبح تتكرر باستمرار، وهذه الرؤيا أقلقته فالذبح هنا ليس النحر فلا توجد أي
إشارة تفيد النحر أي الذبح بالسكين كما فهمه المفسرون ، وهل من المنطق أن سيدنا إبراهيم
ذلك النبي العارف العاقل يقدم على ذبح ابنه الوحيد لمجرد
أنه رأى حلما في المنام.
أما الآية يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ وإنما
أمر آخر وبما أنه جاء بصيغة المضارع وهو فعل متعدي لم يبيّن لنا الله بأي وسيلة أو
أداة ستتم عملية الذبح. إذا فالذبح والمقصود
به استفراغ طاقة من عنصر معين لتحقيق هدف ، مثل ما فعل فرعون ببني إسرائيل قال تعالى
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ
مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ إبراهيم:6 فالذبح هنا هو استغلال طاقتهم و جهدهم
واستغلالهم في العمل والبناء ،ولو كان الذبح بمعنى فيزيائي فما هي الاستفادة من وراء
ذلك لتحول إلى قتل ، والقتل هو كبح طاقة المقتول .
نقول فلان ذبحه العمل أي أجهده
ذَبَحَهُ الظَّمَأُ: جَهَدَهُ
فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ بمعنى خذ مهلة من الزمن وفكر في الأمر أي أن سيدنا إبراهيم
أعط لأبنه مساحة من الزمن ليفكر في هذا الموضوع
ثم إبداء الرأي بعد ذلك. قال تعالى ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا
كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ﴾ العنكبوت20 وقال ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ 11 الأنعام .فالنظر هنا ليس البصر وإنما البحث
و التدقيق والتفكر و هذا بطبيعة الحال يأخذ وقتا
لتصل إلى نتيجة زد على ذلك لنفترض أن الذبح( النحر ) هي وحي من عند الله وهو
أمر لا جدال فيه كما فسره المفسرون ، فلماذا يطلب الإذن من ابنه في هذه المسألة ويطلب رأيه ولنفترض أنه رفض فهل سينفذ سيدنا إبراهيم
الأمر الإلهي أم لا ؟ وماذا سيكون موقفه أمام الله سبحانه وتعالى؟ فالمسألة فيها توريط.
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أسقطه على الجبين بمعنى صرعه ، هكذا
تم تفسيرها بينما هي لِلْجَبِينِ وما علاقة الجبين في عملية الذبح لماذا ليست على ظهره
أو على بطنه زد على ذلك تشعر في تفسيراتهم أن سيدنا إبراهيم مسك ابنه الباّر والمطيع
الذي قبل الذبح عن طواعية وبدون تردد ،حيث
جرّه وأسقطه بقوة و عنف وبقسوة فوقع على جبينه ... فمادام ابنه موافق على ذلك فلماذا
هذا العمل بالأساس ( صرعه ) حتى مع الحيوانات ليست بهذه الطريقة زد على ذلك أيعقل أن
يصدر هذا العمل القاسي و الهمجي من نبي و رسول مثل سيدنا إبراهيم ذلك الرجل التقي الرحيم والمفكر فهو نبي ورسول له رسالة نبيلة
وناصح للناس.
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا تم تفسيرها قد صدقت المنام ودليلهم
على ذلك إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ بمعنى أن الرؤيا هي المنام وهي غير ذلك لأنهم
غفلوا عن الواو ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن
يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ فهي بداية لآية أخرى ولمسألة أخرى
ليس لها علاقة بالحلم الأول ، والتنزيل الحكيم ميّز بين الحلم و الرؤيا ﴿وَقَالَ
الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ
سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ
إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ
بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) ﴾ يوسف.
فسيدنا إسحاق وملازمة النبي ابراهيم وتلقينه مبادئ التوحيد وطرح الأسئلة وخوض التجارب للوصول إلى برّ الأمان وجني ثمار المعرفة والاستمرار على منهج الشك المبني على منهج علمي منطقي النبي ابراهيم الذي أسس مبدأ عدم الهروب بل المواجهة والتفكير وتفعيل العقل ونبذ كل موروث فمن يتشبث به بدون اعمال العقل واتباع الآباء و الأجداد وتقليدهم ( أشخاص، كتب ، نظريات ...) كل هذه الأفكار جعلت سيدنا إبراهيم يرى أنّها عمل مجهد وشاق لا يفارق تفكيره من باب عطف الأب على
الابن فهو بمثابة ذبح، وعندما سأله يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ
أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ بمعنى هل أنت مستعد لهذا العمل المجهد والشاق...؟انطلاقا من تجربته وليس ما رأيك في أن أنحرك !!!. وكان رد الابن أنه سيصبر سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ
، ولفظ الصابرين هي عملية متكررة عكس أصبر وسيسحق كل موروث وسيستمر على نهج النبي ابراهيم لذلك اسمه اسحاق .
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فبعد تطهير البيت، والبيت هنا ليس ذلك المكعب الحجري المرمي في وسط الصحراء بل عقلك فالنبي ابراهيم إمامًا للناس بل
منطلقا ومرجعية فكرية صحيحة لذا وجب عليه تطهير البيت للطائفين و العاكفين ، ومن
لم يطهر بيته لن يستطيع الطواف .
ورفع القواعد/الثوابت مع سيدنا إسماعيل ونتيجة هذا العمل (تطهير البيت) تمّ تعويضه
بذبج عظيم وليس ذلك الكبش النازل من السماء (الجنة) بل هو الحج / المحاججة المنطقية العلمية . ﴿ وعَهِدْنَآ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ *﴾ البقرة125
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا
وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ(129) ﴾ البقرة
﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي
شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
(26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ
يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَٰلِكَ وَمَن
يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ
الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) ﴾ الحج
Subscribe by Email
Follow Updates Articles from This Blog via Email
No Comments